السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
عدت يوم أمس إلى باريس ، واعترتني الدهشه الممزوجة بالحزن إلى درجة أنني فكرت بإلقاء نفســــي من النافذه إلى الشارع عندما شاهدتُ غرفتـــي للمرة الثانيــه وفيها الســرير والأثـــاث وكل شـــيء يتركه المرء بعد موتـــه ......
لم أعد استطع أن ابقى بين هذه الجدران التي كانت قد احتوتها يوماً ما ، والتي احتفظت بألف ذرة منها ومن بشرتها ، ومن نفسها .....
هممت بالمضـــي بعدما تناولـــت قبعتـــي ، ولكن ما إن وصلت إلى الباب حتى مررت بمرآة ضخمه في الصالون !!
تللك المرآه التـــي وضعتها هنا لتلقــي على نفسهـــا نظــره كليــه من فَرْقِها إلى قدمها قبل خروجها كل يوم ، تتفحص كل شيء فيها بدءاً من حذائها الصغير إلى قبعتها ......
ووقفت لوقت قصيــــر أمام المرآه التـــي كانت قد عكســـت صورتها في كثير من الأحيـــان ......
حتى أيقنـــت من احتفــــاظ المـــرآه لصورتـــها ....
وكنت واقفــاً أمامها وأنا أرتجف ، وعيناي ثابتتان _ على تلك المرآه المستويه العميقه الفارغه _ التـــي حوتها كلها ، واستحوذت عليها تماماً مثلما استحوذت علي ...
وشعرتُ وكأنني قد أحببتُ تلك المرآه فأخذت المسها بيدي ، لقد كانت بـــارده ......
إنها مرآه مؤلمه مَحْرِقه مروعّه لأنها تجعل الرجـــال يعانون من آلامٍم كهذه الآلام ، ما أسعد ذلك الرجـــل الذي ينســـى قلبــه كل شـــيءٍ فيــه .....
انطلقــت بعد ذلك نحـــو المقبـــره ، ووجدتُ قبرها بسيـــطاً ، له شاهدةٌ من الرخــام عليهــا هذه الكلمـــات : " لقد أَحَبَّت ، وأُحَّبت ، ثم مـــاتت " إنـــها الآن تحت التـــراب .....
أخذتُ بنحيــب ممضِّ وجبينـــي على الأرض ، ووقفــتُ هنا لوقـــتٍ طويـــلٍ ، وبدأت يـــد الظـــلام ، تقترب منـــي رويـــداً رويـــداً ، واستحـــوذت عليَّ رغبـــةٌ حمقـــاء ؛ رغبـــةُ عــاشقٍ يائس ، إذ رغبـــتُ أن أقضـــي ليلتـــي وأنا أبكـــي فوق القبـــر ، ولكننـــي سأُشاهدُ وأُطْرَدُ تُـــرى كيـــف أستطيـــع أن اتدبــر أمري ؟؟
وأخذت أمشـــي وأمشـــي في المقبـــره ،، وقلـــت : ماأصغـــر هذه المدينـــه موازنـــة بالمدينــه التـــي نعيــــش فيها ، وما أكثر عدد الأموات موازنـــةً بالأحيــــاء .....
إنهم يحتاجـــون لبوت شاهقـــه وشـــوارع عريــــضه وأماكن واســــعه ، ولكن أنى لهم ذلـــك ، والأجيــــال تلو الأجيــــال !! ......
وداعــــاً أيهـــا الأمـــــوات ........
وها أنا في آخــــر المقبـــره عند أقـــدم جــــزءْ فيهـــا ، حيث الشواهـــد ذاتـــها قد تآكلــــت ، إنها مليئـــة بالورود المهمله وبأشجـــار الســـرو القويــه والقائمـــه .......
يالها من حـــديقـــة جميلـــــةٍ وحزينــــه !!
كنــــتُ وحـــدي في المقبـــره وجثمـــتُ تحـــت شجــــرةٍ خضــــراء ، وخبـــأت نفســــي وَسَط أغصــــانها المتشعبــــه الداكنــــه ......
وتركت ملجـــئي عندما صــــار الظـــلام حــــالكـــاً ، وبدأت أتجـــول بـــهدوء ......
واستــــغرق تجوالـــي وقتــاً طويــــلاً ، لكننــــي لم أعــد أعثــــر على قبرهـــا مرةً أخــــرى .....
وتابعـــت تجوالــــي ويداي ممدودتـــان . وكنــــتُ أصطـــدم بالقبـــور بيـــديَّ وقدمــــيَّ وركبتــــيَّ وصدري ، وحتـــى برأســـي من دون أن أتلمَّـــس طريقــــي كالعميـــان وأخـــذت أتحسس الحجــــاره والشواهـــد والدرابزيـــن الحديدي وأكاليـــل الزهــــور الذاويــــه وقرأتُ الأسمــــاء بأصابعــــي ، ولكننــــي لــم أعثـــر عليها مرَّة أخرى .....
لم تكن تلك الليله مقمــــرةً ، ماهذه الليلـــه !! لقـــد ارتعـــد قلبـــي خوفـــاً في تلك الممـــرات الضيـــقــه الواقعــــه بين صفيـــن من القبـــور ، وجلســـت على أحدهمـــا ، لأنني لم أعـــد أقـــوى على السيـــر أكثـــر من ذلــك ؛ فقد كانـــت ركبتـــاي ضعيفتيـــن ، واستطــــعت أن أسمع ضربات قلبــــي !!
وسمعــــت شيئـــاً آخــــر أيضـــاً مــــــــــــاذا ؟؟؟؟؟؟؟؟
إنـــه صوت ضجيجٍ غامـــضٍ مضطــــرب ....
تـــرى هل كان ذلك الضجيـــج في رأســــي ، أم في الظـــلام الحــــلك ، أم تحت الأرض الغـــامضــــه ؟؟
ورحـــتُ أنظـــر من حـــولـــي ، لقـــد شُللــــتُ من الذعــــر والبــــرد والخــــوف ولم يبقـــى لي أمل ســــوى الصـــراخ أو المـــوت ؟؟!!! .......
وفجـــــــــــأه !!
بــدا لي أن البلاطة الرخــــاميـــه التـــي كنــــتُ أجلــــسُ عليهـــا كانــــت تتحـــركـ ؛ وكأنهـــا كانت ترتفـــع ، فَطِرْتُ إلى القبـــر المجـــاور بقفـــزةٍ واحــــدهٍ ، وشاهـــدت بوضوح الحجـــر الذي ابتعدتُ عنه لتوّي وهو يـــرتفـــع للأعلــــى .......
بعـــد ذلك ظهـــر الميـــت يرفـــع الحجـــر الذي يغطـــيه بظهـــره المنحنـــي ، لقد شاهدتـــه بوضـــوح كامـــل ؛ على أن تلك الليله كانت حالكـــة الظــــلام ، واستطعــــتُ أن أقـــرأ علــــى الشــــاهده :
يرقـــد في هذا القبــــر جاكــــس أوليفانت الذي مات وهو في الحـــاديـــة والخمسيــــن من العمـــر لقــد أحبّ أســـرتـــه . وكـــان لطيفـــاً وشـــريفـــاً ، وقـــرأتُ أيضــــاً ماكان مكتوبـــاً على الشـــاهده ، ثـــم ألتقــط حجـــرأً صغيـــراً حاداً من الممر ، وبـــدأ يحـــك الحـــروف بعنايــــة وببــــطءْ طمســـها كلـــها ، ونظـــر بعينيـــه المجوفتيـــن إلـــى المكـــان الذي كان قـــد نقـــش عليـــه وصفـــه وبـــدأ بعد ذلك يكتــــب بالعظمـــه الرأسيـــه لإصبعــــه بحروفٍ واضحــــه : هنـــا يرقـــد جــــاكس أليفانت الذي مات وهو يناهـــز العـــام الحــــادي والخمسيـــن ، لقـــد استعجـــل وفـــاة والـــدهِ وتمنى أن يـــرث ثروتـــه ، وبـــدأ يعـــذب زوجتـــه ، ويغـــشُّ جيرانـــه ويسلــــب كل إنســــان يستطيـــع سلبــــه ثـــم مات بـــــائســــاً .....
ثــــم وقـــف الميـــت دون حـــراك بعــد أن أنتهــى من الكتـــابـــه ....
التفت من حولـــي فوجــــدت القبـــور جميعــها مفتوحــــه وانبثـــق منها الموتـــى جميعهـــم وراحــــوا يطمســــون ماسُطِّـــر على شواهدهــــم ؛ لِما وصفـــهم به أقربـــاؤهــم واستبدلـــوا تلك السطـــور بالحقيقـــه .....
رأيـــتُ أن جميعـــهم كانوا مــــؤذيـــن لجيـــرانهم ، غشاشيــــن مماطليــــن منافقيــــن كذابيــــن وأشــــراراً ، كانوا يسرقــــون ويخدعـــون ويقومــــون بكـــل عمـــل شنيــــع ، هـــؤلاء هـــم الآبـــاء الطيبــــون ، هــؤلاء هن الزوجـــات المخلصــــات هـــؤلاء هـــم الأبنـــاء البـــرره ، هـــؤلاء هـــنّ الفتيـــات العفيفـــات ، هـــؤلاء هــم التجــار الشرفـــاء ، كلهــــم كانـــوا يكتبـــون بـــآنٍ واحــد ، في مستهــــلّ مقـــرهم الأبــــدي إلــــى قيام الســــاعه ، الحقيقـــه المخيفـــه التـــي كان يجهلهـــا الجميــــع ؛ أو يتظـــاهرون بأنهــــم كانــــوا يجهلونـــها ، عندمـــا كان هـــؤلاء على قيد الحيـــاة واعتقــــدتُ أنـــها أيضـــاً لابد من أن تكون قد كتبــــت شيئــــاً ماعلى شاهدتـــها ......
وركضـــتُ بعــد ذلك من دون خـــوف نحـــوها ، متأكـــداً من أنني سأجدهـــا في الحـــال ، لقـــد عرفتهـــا فـــوراً من دون أن أرى وجههـــا ، وقـــرأتُ على شاهـــدة قبرهـــا الرخـــاميه العبـــارة التـــي تقــــول ::
لقــد أحبَّتْ أُحَّبــــت ، وماتت . ورأيـــت بعــد ذلك العبــــارة التـــي تقـــول ::
بعـــد أن خرجـــت في يـــومٍ مـــاطـــرٍ لتخــــون عشيقــــها ؛ أصيـــبتْ بالزكــــام ثـــم مــــاتت ........
ويبـــــدو أنهــــم عثــــروا علــــيَّ في اليـــوم التــــالي عند الفجــــر مستلقيــــاً على القبـــــــــر ومُغمـــــــــىً علــــــــــــــــــــيّ ......................