أنا .. وقصـور والدتي
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد،
والدتي الحبيبة امرأة تُعد أُمية في حكم متعلمي اليوم
وها هي قد بلغت من الكبر عتياً .. لكنها –بفضل الله-
قد أُوتيت من الحكمة الشيء الكثير ..
"ومن يُؤت الحكمة فقد أوتيَ خيراً كثيراً"
لذا فإنني أجدها مصدراً خصباً يفيض علماً وحكمةً في مواطن شتى
ولا عجب!!
فالحكمة ضالة المؤمن، فهو أولى بها أنى وجدها
وكفيل بالحياة مدرسة لمختلف العلوم والفنون
فكم من متخرج في مدرسة الحياة هو أعلم وأبلغ منطقاً وأقوم لساناً
من متخرجي مقاعد الدراسة النظامية
ولا غرو .. فالحياة هي ميدان التعلم ..
ربما أكون أسهبتُ قليلاً ..
لذا دعوني أخوض فيما أنا بصدده
ألا وهو
قصــور والدتي
قد يتبادر إلى أذهانكم بأن والدتي قد أوتيت وفرةً من المال
حتى أنها تملك قصوراً كثيرة أنا فرح بها الآن
كلا أيها القارئ العزيز فقصور والدتي ليست كقصور أهل الدنيا !!
ففوالدتي رعاها الله لا تفتئ تقول لي:
ابن لك في كل بلد قصــراً
فأقف مشـدوهاً لأقول لها:
لم أُفلح إلى اللحظة يا أماه في امتلاك قطعة أرض خلاء حتى يمن الله علي يوماً بتعميرها
فكيف لمن في مثل حالي أن يبن قصراً ناهيك عن قصـــور؟!!!!!!
لكنها بارك الله فيها ما تلبث أن تضحك ضحكةً خفيفة لتقول:
اتخذ لك أخاً حميماً في كل بلد لأن مثل هذا الأخ سيكون سنداً لك ومأوى هناك
فهو بمثابة القصر والسكن الذي تأوي إليه في غربتك
يا لها من حكمة عظيمة لم أدرك حقيقتها وكنهها إلا عندما سافرت للدراسة
صحيح أن "السفر قطعة من عذاب" –كما رُوي في الحديث-
ولكن لابد وأن نعترف بأن للسفر فوائد جمةً أيضاً كما لخصها الإمام الشافعي رحمه الله:
تَغرَّبْ عن الأوطان في طلب العُلَى ** وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائدِ
تفـريجُ هـمٍ، واكتســـابُ معيشـــةٍ ** وعـلمٌ، وآدابٌ، وصحبةُ ماجـــدِ
إن والدتي الأمية البسيطة في تفكيرها قد أدركت مثل هذه المعاني
وآمنت بأن صحبة الأماجد من مكاسب الرجال
فحرصت على حثي لكسب مودتهم
أحسن الى الناس تستأسر قلوبهم ** فطالما استأسر الإنسان إحسان
ولكن ومع أنها هي التي أشارت عليَ بمصاحبة الأخوة المخلصين
إلا أنها عارضتني كثيراً عندما عزمت النية للسفر مرةً أخرى من أجل الدكتوراة .. عجباً !!
ولكن لا عجب في ذلك، فتبقى مشاعر الأمومة فياضة .. فالإنسان بطبعه لا يحبذ الفـراق )- :
ولكني أرد عليها مداعبــاً:
كيف لي بالقصور يا والدتي إن لم أخرج في طلب تعميرها ..؟!!
فالغربة هي الميدان الخصب لمصاحبة الرجال والتعرف على أطايب معادنهم
أوليس هذا ما تريدين ؟!!
فتتبسم وهي تبكي بكاءً المودع .. وتقول ودموعها تجري على خديها:
في حفظ الله وأمانه .. وبلغ سلامي لكل من تحبهم ويحبونك
فجزاك الله خيراً كثيراً أن حفزت همتي على بذل قصارى الجهد لمخالطة الماجدين
والاستفادة مما لديهم من علم والتخلق بأحسن أخلاقهم
كم هي عظيمـة تلك القصــور الشـامخة يا أمــاه ..
فلله الحمد والشكر أولاً وآخراً على كل نعمة أنعم بها علينا
ولك الشكر موصولاً يا أماه على حكمتك العظيمة
حفظك الله يا أماه وأدام عليك نعمة الصحة والعافية
والله أسأل أن يُقـر أعيننا بلقـاء قريب
ونحن جميعاً في خــير وعافية
ورضى من رب رحيم
اللهم اغفر لوالديَ وارحمهما واجزهماعني خـير الجــزاء